دائماً صامت واجم يقرأ صحيفته، أو يشاهد التلفاز، أو يهاتف صديقاً له. لا يشعر بوجودي، وإذا تكلم معي فكلامه جمل قصيرة أو أسئلة مقتضبة. نظرتُ إلى نفسي فإذا بالشعر الأبيض قد بدأ يتسلل إلى مفرقي، لقد مر كل شيء بسرعة. إنه لم يعد ذلك الشاب الذي يكافح ليبني نفسه، ولكنه على الرغم من ذلك فهو يتمتع بكامل شبابه وحيويته، ناهيك بالمكانة الاجتماعية المرموقة التي تبوأها.
عدت بخيالي إلى تلك السنين التي ابتعدت خلالها عنه، وتكوَّن بيني وبينه حاجز أخذت تزيده الأيام صلابة وعلواً.
تصورت ـ لفرط جهلي ـ أنني بصبري على ظروفه المادية الصعبة في بداية حياتنا الزوجية، وتفانيَّ في تربية أبنائه، سأقدم له برهاناً وزاداً يبقي نهر الحب بيننا دفَّاقا،ً وأزهار المودة يانعة، وجسور العاطفة قائمة. وغاب عن ذهني أن أزهار الحب بين الزوجين تتغذى بالعاطفة، وتتفتح بالكلام الرقيق، وتثمر بالمشاركة الوجدانية .
تذكرت العبارات السلبية التي طالما رددتها عليه عندما كان يشكو إليَّ همومه، أو يأخذ رأيي في شيء يخص عمله، أو يدعوني لقضاء بعض الوقت معه، كنت أرد: "أنا متعبة"، "أنت لا تعرف كم أعاني في تربية الأولاد"، "نحن كبرنا على هذا الكلام"! بهذه العبارات فقدت مشاعر زوجي بعد أن بنيت جداراً من اللامبالاة والجفاء وذبل به ربيع حياتي.
قررت تحطيم ذلك الجدار بيدي هاتين، كما سبق أن بنيته بإهمالي وعدم مشاركتي لزوجي همومه ونجاحاته أو أفكاره وطموحاته وتطلعاته، وعزمت جادة على تحطيم ذلك الجدار، وجعلت تغييري لنفسي نقطة البداية، وتذكرت الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...} (الرعد:11).
بدأت بقراءة الكتب التي تعالج المشاكل الزوجية والعلاقة بين الزوجين، وأخذت منها ما يناسبني كامرأة مسلمة ويناسب ثقافتي ومبادئي. لاحظ زوجي التغيير في منزلي وطريقة ترتيبه، وطعامي والأصناف التي أعدها له، ولاحظ أيضاً اهتمامي بهندامي وتجملي وتزيني له، وأجزم أيضاً أنه لاحظ الكلمات الحانية التي أقولها له، وتلك العطور التي تفوح من كل ركن من أركان المنزل. لاحظ ذلك كله، لكنه بقي على صمته وعدم مبالاته، وأضاف إليها نظرات ساخرة وكأنه يقول: لقد كبرت على هذه الأشياء، أو يقول: الآن بعد كل تلك السنين !!
أدركت في قرارة نفسي أنه لن يعود كل شيء كسابق عهده وتعود الليالي الخوالي بهذه السرعة التي تمنيتها. ولكن لا بد أن أتحمل كل تلك النظرات الساخرة أحياناً والمتعجبة أحياناً أخرى، وعرفت أن قلب زوجي مليء بمشاعر سلبية لا بد أن تخرج، وهي الآن تخرج بهذه العبارات الساخرة والنظرات المستفزة.
وعلى هذا الأساس عزمت على مواصلة المشوار حتى النهاية بالصبر والمثابرة والوقوف بجانب زوجي، والسؤال عن أحواله في العمل، وتعبيري له عن مدى اشتياقي لرجوعه للمنزل، وإصراري على التحاور معه في كل ما يخصه ويخص حياتنا، وتأكيدي له أنه أهم وأكبر شيء في حياتي ـ بعد مرضاة الله عز وجل ـ، وأنه كان وما زال على رأس أولوياتي واهتماماتي.
وأخيراً تكلم، ولكن بكلمات ملؤها العتاب واللوم على كل تلك السنين السابقة، وتغلبت على كل ذلك بمشاعر الحب والود والاعتراف بالتقصير.. ونجحت في اختراق الصمت!
------------********-----------منقول------------********----------